الفيل السينمائي

موقع السينما العراقية

في مديح عبد الخالق المختار



عبد الخالق كيطان




لم تكن الدراما التلفزيونية العراقية بمعزل عن الظرف العراقي المأزوم منذ عقود، وإن بدت الكثير من تجاربها ميالة للكسل والتراخي حيال هذا الظرف، مع ذلك، وفي لجة البحث عن دراما عراقية خالصة تحاول على قدر اجتهادها أن تبث الأمل والفرح في نفوس الناس العطشى يبرق هنا وهناك نجم أو أكثر من أبطال الدراما العراقية، وكأنهم يخرجون من سنوات العدم، كأبطال أسخيلوس، إلى الحياة وقد دمرت واستبيحت.لقد عاشت الدراما العراقية فترات صعبة في تاريخ عمرها الذي يتجاوز النصف قرن، ولكن الموجة الضلامية التي تجتاح البلاد حالياً تلقي بظلالها الكئيبة عليها فتبدو المحاولات العراقية الحثيثة للنهوض بها محاولات جبارة تتحدى جبال القهر والموت، وإن كنا نطالب بأكثر من ذلك!.
ولا تنفصل الدراما التلفزيونية عن نجومها، فهم الأبطال الذين يتحلق المشاهدون لمتابعة حركاتهم عبر الشاشة الصغيرة، فيقعون في حبهم أو كرهم، مثلما يسعون إلى تقليدهم وتقليد ملابسهم وتصرفاتهم وما إلى ذلك. هكذا تبدو ولادة نجم تلفزيوني جديد صعبة للغاية لما يتطلبه ذلك من شروط عديدة تتوافر في ممثل ما دون سواه.هذه السطور تفيدني في محاولة إلقاء الضوء على تجربة واحد من نجوم الدراما التلفزيونية العراقية، هو الفنان عبد الخالق المختار، وسيرته التي أهلته ليكون كذلك.


لماذا المختار؟
يمتاز الفنان عبد الخالق المختار بعدد من الصفات التكوينية والثقافية ما يؤهله ليكون أنموذجاً للنجم العراقي. فمن حيث التكوين الجسدي يمتاز بطول معقول مع لياقة بدنية مناسبة، كما أن تقاسيم وجهه تصلح كثيراً للتعبير الميميائي الذي تتطلبه عدسة الكاميرا(فوتوغراف، سينما وتلفزيون)، وهو من خلال تلك التقاسيم الميالة للحدة، كما في رسم الحاجبين، يستطيع تقمص الأدوار المصنفة بالشريرة، كما أن أحمرار وجنتيه يحيل إلى إمكانية تأدية دور الفتى اللعوب أو العاشق الولهان أو ما إلى ذلك من أدوار دون أن ننسى عمر الممثل الذي يناور به في مثل هذه الأدوار. كما أن المختار حصن نفسه جيداً، ونقصد التحصين ضد آفات الدراما المعاصرة والتي أهمها الآفة الاستهلاكية مع موجة المسرحيات والمسلسلات التي تملأ أسواق الإنتاج الفني. وكان عمله في تدريس الفنون التمثيليلة في معهد الفنون الجميلة ببغداد لسنوات طويلة بمثابة التمرين المستمر لشحذ الحواس والأدوات على حد سواء.


البدايات:
ولد عبد الخالق المختار في العام 1960 من عائلة متوسطة تسكن أحد أحياء بغداد الشعبية (مدينة الحرية) المجاورة لحي الكاظمية الذي هو أحد أعرق أحياء بغداد الشعبية. بعد سنوات يجد المختار نفسه مندفعاً لدراسة الفنون المسرحية في معهد وأكاديمية الفنون ببغداد، وإذ يحقق التفوق طالباً في المراحل التمهيدية يكمل دراسته فيحصل على شهادة الماجستير في علوم المسرح في العام 1988. وبين المرحلتين، التمهيدية والعليا في دراسة الفن، كان على المختار أن يوقع بدمه في جبهات الحرب مع إيران( 1980_1988)، فعاد منها إلى كرسي الدرس بأثر في قدمه.


أول الخطوات البارزة كانت في السينما، التي كثيراً ما بدت في عراق يتناهبه الجوع والموت مجرد ترف، وربما هذا ما دفع بالساسة لأن يمتطوها حيناً ويهملونها حيناً آخر. قال له المخرج السينمائي عبد الهادي مبارك: أنت بطل فيلمي القادم(الحب كان السبب) ولم يكد عبد الخالق المختار أن يصدق ذلك، فالسينما العراقية غير معنية بما يسمى الوجوه الجديدة، هل تتذكرون في هذا السياق الوجه الشاب صدام كامل بطل فيلم(الأيام الطويله) لمخرجه المصري توفيق صالح؟، لقد أحرقت نسخ الفيلم كلها لأن الوجه الجديد في هذا الفيلم والذي صار صهراً لصدام قد انقلب عليه فاستحق الموت، ومن وراءه الفيلم الي أدى بطولته وصرفت عليه أموالاً طائلة!واجه المختار، وهو الوجه الشاب الجديد هنا في(الحب كان السبب) عدداً من الممثلين البارزين، ومنهم الممثلة سناء عبد الرحمن والممثل جواد الشكرجي، فأجاد في حضوره المؤثر الأول وهي كانت فرصته الأولى الحقيقية للبزوغ، فبزغ.




نماذج:


قرأت أغلب حوارات المختار، ووجدته في كل واحد منها يعود بذاكرته لفيلم( الحب كان السبب)، ثم يعرج على مسلسل(الجرح) للمخرج عماد عبد الهادي ومسرحية(خمسة أصوات) لمحمود ابو العباس والمسلسل الإذاعي الذي يحكي قصة شاعر العرب(الجواهري) لمقداد عبد الرضا، ومسلسل (مناوي باشا) لفارس طعمة التميمي .. خمسة أدوار يردد المختار أنها صنعته، والمرور السريع على هذه الأدوار يفيدنا في قراءة سيرة نجم.فمن بطل ثوري في (الحب كان السبب) إلى بطل مخذول في (الجرح) ثم صعلوك شعر في (خمسة أصوات) فشاعر ملأ الدنيا وشغل الناس في عصره، وكان هذا الجواهري، ثم شخصية البطل البرجوازي الوطني في مسلسل (مناوي باشا).. خمسة أدوار تمتاز بشدة اختلافها عن بعضها البعض وتباين تراكيبها النفسية والإجتماعية وبيئاتها الاقتصادية والسياسية. اختلافات تتيج لممثلها فرصة إشهار مواهبه كما أنها تمثل امتحاناً مستحقاً لتلك المواهب.وما بين هذه الأعمال مختلفة التواريخ ثمة الكثير من الأعمال، خاصة في مجال الدراما التلفزيونية (النعمان الأخير، الواهمون، كبرياء وهوى وغيرها) حتى صار المختار قاسماً في عدد لا بأس به من الأعمال التي فرضت لنفسها حضوراً معقولاً إذا ما تذكرنا الكم الهائل من المسلسلات محبوكة الصنعة ومترفة الانتاج سواء أكانت قادمة من مركز الدراما العربية التقليدية (القاهرة) أو من تلك المراكز الجديدة الصاعدة في الخليج وسوريا.ا


الدراما والتقمص:
ليست الدراما التلفزيونية العراقية بالصنعة السهلة على الاطلاق، وأههم ما يجعل من مهمات الانتاج التلفزيوني العراقي شبه مستحيلة ما يتعلق بالظرف النفسي الذي يعيشه الممثل، ومن وراءه جميع أهل الحرفة، وهو وضع نفسي لا يختلف بشيء عن الملايين من العراقيين على مدى العقود الثلاثة الأخيرة. الدراما التلفزيونية تشترط التقمص الكامل ما يضع المتفرج يعيش في دائرة الوهم التلفزيوني التي تنتجها الدراما، والتقمص الذي يعرفه المشاهدون جيداً عبر نماذج لا عد لها من الأعمال يحتاج إلى استرخاء تام وابتعاد عن أي بؤر للتوتر قد تنحرف بصاحب الدور عن مهماته في الأداء، فمن أين يجيء الاسترخاء للممثل العراقي وهو يعاني منذ عقود في أبسط مستلزمات العيش الكريم؟هكذا كانت مسيرة الدراما العراقية على مدى العقود الثلاثة الأخيرة مثل مسيرة دب ثقيل الوزن يقتات على النبات البرية فيما يتأمل كل ساعة بلحم يقوي عظمه.عبد الخالق المختار ليس استثناءاً بين المئات من الممثلين، ربما ثقافته كانت أول من ينقذه من ثقافة النمط التي تربت عليها أجيال من الممثلين العراقيين. الدور الجديد الذي يؤديه المختار يمثل له فرصة بحث جديدة يغور من خلالها بأعماق الشخصية وتاريخها وما يجاورها في شبكة علاقات النص. انتبه عبد الخالق المختارلضرورة التقمص في التلفزيون، على عكس ما يتطلبه المسرح، فالتقمص في الدراما التلفزيونية يعد شرطاً لا مناص عنه لنجاح أي عمل، ولقد كان المسلسل الذائع (الذئب، النسر وعيون المدينة) يمثل بحق مدرسة عراقية في التقمص أجاد في تأدية أدوارها فنانون بارزون منهم: خليل شوقي، بدري حسون فريد، سليم البصري، سامي عبد الحميد،مقداد عبد الرضا، محسن العلي، مي جمال، فاطمة الربيعي، محسن العلي، جعفر السعدي، قاسم الملاك، طعمة التميمي وغيرهم.. هذه المجموعة، ويقف من خلفها الفنان الراحل إبراهيم عبد الجليل، كانت تؤسس حقاً لفهم عراقي، غير منقطع الصلة بالفهم العربي والعالمي، للدراما التلفزيونية، ولكن فضيلة هذه المجموعة أنها تجيء بعد سلسلة من التجارب المتقطعة المتناثرة والمتباعدة( جرف الملح، الدواسر، ست كراسي، تحت موسى الحلاق) وغيرها.وبعد عدد من الأعمال، عقد التسعينيات من القرن الماضي، كان عبد الخالق المختار يجتهد يوماً أثر يوم في تقمصات تمثيليلة كرسته نجماً تلفزيونياً عراقياً لا يمكن تجاوزه.


الممثل المثقف:
لقد ولى وإلى غير رجعة عصر الممثل الموهوب لمصلحة عصر الممثل المثقف، ولا نقصد بالطبع أن يكون الممثل دارساً للفن بصورته التعليمية التقليدية، وإنما مصادر الممثل المعرفية. وتكاد الفنون البصرية والسمعية من مسرح وسينما وتشكيل وفوتوغراف وموسيقى من أهم تلك المصادر، ناهيك عن ما تمنحه الثقافة المكتوبة والمقروءة من مديات واسعة في فهم وتأمل الظواهر المحيطة بالفرد. ولقد حصن عبد الخالق المختار نفسه جيداً في هذا الاتجاه، فهو قارئ جيد للشعر والرواية كما أنه متابع حسن لما يستجد في عالم الفنون المرئية. ولقد كتب المختار أكثر من مرة في حقل الثقافة المسرحية كما كتب عن عمل الممثل في المسرح ونشر ما كتبه في عدد من الصحف العراقية. وتتبدى مهاراته الثقافية بشكل واضح في عدد كبير من الحوارات الصحفية التي تجرى معه. ولعل من المفيد هنا الإشارة إلى قراءته للواقع الدرامي العراقي اليوم ، تلك القراءة اللافتة حين يقول لجريدة الفرات البغدادية ما نصه: انا بشكل عام ضد تقديم ثقافة العنف حاليا في التلفزيون، لان الانفلات الأمني الحاصل الآن والارباك الاقتصادي لا يتطلب هنا في هذا الوقت أن نتعامل بهذا الشكل ولا يجوز ان نعرض شرائح من المجتمع العراقي في هذه الفترة وهي تمارس القتل والنهب ويجب أن نرى بصيصاً من الأمل يلوح في الأفق وعندما يستقر الوضع الاقتصادي والاجتماعي نستيطع ان نقدم كل سلبيات الحرب وما خلفته من آثار(الفرات البغدادية بتاريخ 16 كانون الأول 2004 العدد 242). جدير بالذكر أن ما ينتج اليوم من أعمال درامية وجدت في موجة العنف والفوضى التي اجتاحت البلاد بعد التاسع من نيسان 2003 فرصة ذهبية تعوض بها ذلك الغياب، المؤقت كما نزعم، لعروض المسرح الاستهلاكي، تلك العروض التي كانت تسخر من كل شيء على طريقتها الخاصة دون أن تأخذ بنظر الاعتبار اشتراطات المسرح الكوميدي والجماهيري الجمالية، ونحن لا نتحدث عن استثناءات.هذه القراءة الذكية لا تخفي وراء سطورها هماً وطنياً صرف يجتهد في إبراز الجانب المشرق من وجه العراق المدمى وحسب وإنما حرصاً مضافاً على مسيرة الدراما العراقية التي كلما حاولت أن تنهض من سلطة زمن أجوف تتلقفتها سلطات أبشع، وما يحدث اليوم من هيمنة للخطاب الاصولي السلفي وما يرافقه من موجة عنف تجتاح البلاد إنما هو بمثابة محاولة جديدة لقوى الظلام بأن تعرقل النهضة الإبداعية العراقية المرجوة في زمن الحرية.عبد الخالق المختار، يستحق أن يكون مثالاً للنجم العراقي، دون أن نبخس في إمكانية ممثلين نجوم آخرين، وخاصة من نجوم الأجيال السابقة له، أنه نجم ولد من رحم الحروب والموت والخراب محاولاً أن يوزع البهجة على أصحاب القلوب العراقية الكسيرة.

المدى

posted by balasim @ الثلاثاء, فبراير 10, 2009,

0 Comments:

إرسال تعليق

<< Home

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفيل السينمائي

موقع الفيل السينمائي يهتم باحلام وهموم واخبار ونتاج السينما العراقية ويهتم ايضا بفن الفيديو والكتابة السينمائية الابداعية في مجال النقد والسيناريو. ويرحب موقع الفيل بكل الاقتراحات والاراء. يمكنكم ان ترسلوا صور من افلامكم لتوثيقها في الموقع ونستقبل ايضا اي صورة من ارشيف السينما العراقية. يرحب الفيل بكل الاصدقاء والزملاء الذين يرغبون في المساهمة في تحرير الموقع.تأسس موقع الفيل عام 2005 ثم توقف عن العمل لفترة طويلة لاسباب وظروف عديدة ثم عاد الى شبكة النت بعنوان جديد في عام 2008


يقوم الفيل باعادة نشر المواد والاخبار المهمة فقط عن السينما العراقية مع الاشارة لمصدر النقل.اما المواد والكتابات التي ترسل من قبل اصحابها ,والمنشورة سابقا، فلن نشير في موقع الفيل الى مصدر نشرها الاول. يسمح بنقل ونسخ مواد وصور موقع الفيل الخاصه به بعد الاشارة الى المصدر. ننشر الكتابات والدراسات عن السينما العربية والعالمية باقلام عراقية فقط. يتم تحديث الموقع باستمرار. تظهر المواد الجديدة في الصفحة الرئيسية ثم تنقل الى ابواب الموقع.جميع المواد ترسل الى بريد المحرر الشخصي

تحرير واشراف

حسن بلاسم


  • الموقع الشخصي
  • Hassan Blasim

  • hassanblasim@hotmail.com

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    الحركةـ الصورة

    من الممكن مقارنة المؤلفين السينمائيين الكبار ليس فقط بالرسامين والمهندسين المعمارين والموسيقيين ، وانما يالمفكرين ايضا. فهم فكروا من خلال الصورة ـ الحركة والصورة ـ الزمن ، بدلا عن التفكير من خلال المفاهيم والتصورات. غير ان المقدار الهائل من الضعف وعدم الكفاءة في الانتاج السينمائي ليس اعتراضا على ذلك. فهو هنا ليس اسوأ منه في اي مكان اخر ، بالرغم من نتائجه الاقتصادية والصناعية الفادحة. لكن المؤلفين السينمائيين العظام ، هم فقط اكثر قابلية للجرح وتثبيط العزم من غيرهم. وما من شيئ أسهل من احباطهم والحؤول دون انجازهم لاعمالهم ، وتاريخ السينما حافل بقائمة طويلة من الشهداء

    جيل دولوز

    بحث مخصص

    Powered by Blogger
    make money online blogger templates

    الفيل السينمائي


    تصميم شعار الموقع الفنان والكاتب خالد كاكي

    آخر تحديث